أخبار الآن | اسطنبول – تركيا – (حاوره: د. عبد القادر المنلا)

من هوليود يأتي صوت جهاد عبدو محملاً بأنين فاجع ليتماهى مع صرخات وآهات وأسى أولئك القابعين في الداخل ممن تنهمر فوقهم براميل الموت والحقد الأسود، ويصل صدى لوعته لكل موجة تقذف بالمهاجرين في قوارب الموت راجياً أن تترفق بمن تحمل، أما ملايين المهجرين في بقاع العالم فيعتبر جهاد عبدو نفسه واحداً منهم ويعيش معهم مخاض التفاؤل بدفن حقبة الطغيان..

العنوان الرئيسي الذي يلخص شخصية عبدو اليوم هو أنه "سوري في محنة"، أما الإحساس بالفنان الهوليودي فهو شأن مؤجل، لوعة الألم تطمس إحساس التحقق والحلم.. ذلك هو مفتاح السوري الأصيل والذي لا يمكن أن يكون له نسخة أخرى..

جهاد عبدو حقق ذاته في سورية ثم امتد نجاحه إلى المستوى الإقليمي فشارك بأفلام تركية قبل أن يصل إلى هوليود، ولا يزال الخزين الذي في داخله والرصيد الفني والغنى الإنساني مخبوءاً في جرار الروح، فهو فنان متعدد الإمكانيات، ناهيك عن خبرته الإنسانية الواسعة التي اكتسبها من تنقله في مجتمعات كثيرة، فضلاً عن إتقانه لعدة لغات، وكما فجرت الثورة السورية مكامن الفجور والقحة لدى الكثير من الفنانين الهشين الوصوليين، فقد فجرت أيضاً ينابيع الحق والعدالة والانتصار للإنسان وقضاياه والتي اختار جهاد عبدو الوقوف إلى جانبها متجرداً من أي مصالح شخصية ووضع نفسه في خدمة الهم السوري ليكون هاجسه الأول..

دعنا بداية نصدم متابعيك وأعتقد أن من سيصدمون هم قلة حينما نكرس معظم اللقاء عن دمشق، عن سورية قبل هوليود، فأنا متأكد تماماً أن هاجسك الأساسي اليوم ليس شخصياً، بالتأكيد لا تزال دمشق هي القيمة المهيمنة على عقلك وقلبك، بم تبوح اليوم لدمشقك وأنت في موقع قد يبعد من هو فيه عن هواجس الجرح الثقيل؟
 

لم تفارقني دمشق لحظة، فالإنسان لا يدرك كم يحمل من الحب لمكان ما حتى يحرم منه. الذكريات المبعثرة تحرك عواطفي، وترسم طريقي. لا استطيع أن اصف الأسى الذي يسكن قلبي بالكلام، مازلت إلى اليوم لا استطيع تصديق الدمار الذي حل بسورية. الآلام كبيرة، والهموم ثقيلة كانت، وما تنفك تزداد ثقلاً. منذ ساعات الشفق الأول تخطفني سوريا الجريحة بلمح البصر فلا أرى سوى دمار وأناس يتألمون تحت وطأة الطغيان.

صور لا تتوقف لأرتال هاربين يقطعون حقول الألغام أو لآخرين حشروا في زوارق الموت البديل. أحاول أن أستبدل بعض الصور بما أحمل في طيات الذاكرة من عبق الصداقة والحب الذي ترعرت عليه في بلدي سورية. اتصل بصديق هنا، وقريب هناك، لأدرك بعد وهلة أن كل أحبتي قد تشردوا في كل بقاع الأرض. مأساة بلدي وأهلي وناسي تفوق طاقتي في الصبر.
 

من يرصدك عن قرب يعي تماماً المخاض العسير لمشاعر الفرح بالنجاح الشخصي -وهي حقك- وأنينك المكتوم على بلدك الذي تمزقه الأيادي الملوثة على مرأى ومسمع كل القوى القادرة على إيقاف النزيف، هل كنت تتمنى توقيتاً آخر لهذا النجاح الكبير الذي حققته؟
 

وكأنك في قلبي، لقد شعرت بغصة كبيرة! ففرحة نجاحي غير مكتملة، ولكن هذه حال الدنيا!. من كان يتوقع يوماً  أننا سنتشرد كمن سبقنا في بقاع الأرض الواسعة؟ لا أخفيك أنني في بداية التسعينيات لم أرغب في مغادرة دمشق رغم الحلم الكبير الذي كان يرافقني للمشاركة بأي عمل ناجح حول العالم. وكنت دوماً أجتهد في تحصيل اللغات ومشاهدة أنجح الأعمال.

كما كنت أواظب للمحافظة على صحتي الجسدية والنفسية. وعندما غادرت سورية اعتقدت أنني سأغادر لثلاثة أشهر أو أربعة، ولكن الوضع في سورية كان يزداد تعقيدا كل يوم. وبعد سنة كان لابد لي من البحث عن الاستقرار.  ولكن وكما يقال قد تقود العاصفة قارباً لبر الأمان أيضاً!! وهذا ما لم يك في بالي أبدا، فيد القدر ترسم لنا الطريق دون أن ندري!
 

تتابع بدأب وحرص شديدين كل المقالات والتحليلات السياسية حول ما يحدث في سورية، هل تجد أنها قاصرة عن توصيف الحقيقة أم أن ثمة يداً تعبث بالحقيقة وتريد أن تدفنها لإحلال أمر واقع وتغيير جوهر بلد وبنية مكان؟
 

تماماً، هناك أياد تعبث وتزيف الحقائق، فالإعلام يقوده القوي صاحب رأس المال. ولب المأساة أننا نفقد خيرة شبابنا، وإذ أقول ذلك أعني ما أقول. أشعر أحيانا بإحباط شديد لأن الظلم ليس فقط ارتكاب الجريمة وإنما تجميل صورة الجاني ومساواته بالضحية. لا أخفيك أن ما حدث في سورية ويحدث كشف لي المأساة الإنسانية التي عاشها ويعيشها كل فقير ومظلوم عبر العصور. فالغبن الذي يطال عامة الناس هو ذاته أينما ذهبت ولكن بلبوس مختلف. أحيانا أتساءل كيف لإنسان من لحم ودم أن يكون ظالما لأخيه الإنسان لهذه الدرجة، وإلى أين تمضي هذه الإنسانية عديمة الإنسانية.

اسمح لي بسؤال تقليدي ولكن لا يمكن تخطيه في لقاء مع فنان عالمي يحرق المجرمون جذوره: كيف لفنان أن يقف مع قاتل؟ كيف ولماذا وبأية ذريعة استطاع الكثير من الفنانين السوريين الانحياز إلى الأسد؟

بعض الناس عبيد لمصالحهم، وقلة قليلة هم الذين يحيدون مصلحتهم الشخصية وقت المحن، والتاريخ شاهد على ذلك. انظر حولك تجد كثيراً من الفنانين يلهثون وراء لقمة عيش مغمسة بالدم، من يرفض ذلك سيجوع ويهجر وقد يعرض نفسه لخطر محتم. ولا أعتقد أن هذا يقتصر على الممثلين فحسب، وإنما تجده لدى أغلب المهن. ولكن كوننا نفترض أن الفنان يجب أن يحمل رسالة إنسانية فإننا نعلق عليه آمالا أكثر من غيره. وأنا كممثل عشت في ذلك الوسط الفني وأعرفه فلست متفاجئاً أبدا بموقف بعض الممثلين والممثلات، فالأخلاق لا تتجزأ.
 

استطاع الإعلام تكوين رأي عام عما يحدث في سورية معلب ومبستر ومفصل على مقاس مصالح محددة، انسحب ذلك حتى على الفنانين وعلى معظم النجوم الكبار الذين تبنوا الرواية الموجهة وأخذوا يكررونها ولا يقبلون غيرها، هل تجد لدى الفنانين العالميين الذين تتعامل معهم وعياً حقيقياً بالشأن السوري،؟ أم أن القضية لا تعنيهم؟
 

لقد دهشت من إنسانية بعض من التقيت من الفنانين هنا في هوليود. إن من التقيتهم كانوا جداً متحمسين لمد يد العون لأي سوري كان، لا تهمهم انتماءاتنا المتشابكة، ولا معتقداتنا الدينية، ولا حتى توجهنا السياسي. الفنان الحقيقي يرى في كارثتنا مصيبة إنسانية، لا تختلف في نظره عن كارثة هايتي، كوسوفو أو راواندا. أذكر هنا جزءاً من حديث دار بيني وبين الممثل البريطاني الأصل "داميان لويس" أحد كبار نجوم هوليوود اليوم إذ قال :" كم أشعر بالخزي من نفسي ومن هذه السياسة الحمقاء! ما الذي يضطر عالم فيزيائي، أو جراح أعصاب مشهور أو ممثل محبوب أن يهرب من بلاده ليأتي هنا باحثاً عن الأمان؟ وأضاف لويس "بالكاد أتكلم لغة واحدة، وأنت هنا تقارعني بلغتي وتنفعل وتمثل بها!! انتم فعلاً شعب حي!!  ترى ماذا سيحل بنا نحن لو تعرضنا لذات المصير!؟"

وأضاف وأنا أتفرج عليه مندهشا "أنا فخور بأنني عرفتك وأعمل معك الآن"  وهنا أعود وأقول أن الأخلاق جزء لا يتجزأ، وهذا ما أحرص وحرصت عليه طوال عمري أن أكون عادلا ولا أكيل بمكيالين كما كنت أرى في سورية للأسف.. وقد قالت لي مرة نيكول كيدمان بعد أن سألتني عن زوجتي وما تفعله :" كم أرغب أن أرافقك وزوجتك يوما في زيارة للاجئين"

رغم أن الإعلام الغربي لا يظهر حقيقة ما يحدث في سورية التي أصبحت قصة قديمة لا تجذب الصحافة إلا أن المثقفين يحرصون على البحث عن أخبار من مصادر أخرى لمعرفة ما يحدث في العالم من حولهم.
 

كيف تحدد دورك كفنان عالمي في المساهمة بإيصال واقع ما يجري في سورية على الأقل لزملاء المهنة، وما هي أدواتك التي تستعملها لتحقيق ذلك؟
 

أساهم حسب قدرتي في الشأن الإنساني. فالمأساة السياسية السورية لم تعد بأيدي السوريين وحدهم. والهم الإنساني أكبر منا جميعاً. بعض الأحيان أصاب بإحباط كبير لأني أرى نفسي وما أقدم أصغر من هم الأمهات اللواتي يشاهدن أولادهن يموتون جوعا. لا أخفيك أنني أحيانا اشعر بسخط شديد من كل ما في هذا العالم من قوى باتت تتفرج على المأساة السورية لسنين. ولكنني أعمل دون كلل لإرضاء ضميري وأعرف أن ما افعله هو ذرة في بحر الألم السوري المتخبط.

أتمنى أن يكون لي يوما ما تأثير أكبر في عالم هوليود لأساعد أهلي وبلدي التي تقطعت بها السبل. وأحاول أن أساعد زوجتي بمشاركتها ببعض النشاطات التي تقوم بها بالتعاون من منظمات إنسانية لمساعدة نساء وأطفال سورية.

وأتوجه بدعوة إنسانية مفتوحة لكل الفنانين وغير الفنانين ليقفوا وقفة مع الذات ويدعوا جانباً كل الأفكار التي تمنعهم من التعاطف مع المظلومين الذين لا حول لهم ولا قوة، ولا ناقة ولا جمل، أدعو كل إنسان أن لا يحتسب شيئا إلا الرحمة بمن لا ذنب لهم، وأن يضع نفسه أو ابنه مكان كل ضعيف. وأنا أتحدث هنا عن كل سوري ظلم أو قد يظلم دون استثناء، فإن لم نوقف عجلة الموت والحقد الآن فمن سيوقفها حين تدور الدائرة على أولادنا. أدعو كل إنسان أن يقف بضمير حي في وجه أي آلة للقتل قد تودي بحياة طفل بريء.