أخبار الآن | الغوطة الشرقية – سوريا – (أيمن محمد)

لم يعد لـ "سمر" سوى ابتسامتها تخفف عنها آلامها، وتدفع بها مرضاً أنهك جسدها، فالحظ العاثر الذي كان حليفها منذ عشر سنوات، لم يتخلى عنها في هذه الظروف، لتجد نفسها ضحية الحصار والمرض، فأن يصيب السرطان شخصاً ما خارج الغوطة وبظروف معيشية أفضل لا يعد من الحظ العاثر في شيء، فكيف بمريض عانى الحصار بكل مرارته، ليصيبه السرطان ليس مرة واحدة، وإنما ثلاث مرات!

"سمر" أم لأربعة أطفال، نشأوا في أسرة معدمة الحال ألفت المرض، والفقر، فالمرض لم يكن ليصيب الأم فقط، وإنما الأب الذي تعرض لحادث سبب له إعاقة دائمة، ليضيف هماً إضافياً لهمومها، والتي ما برحت ابتسامة الرضا تفارق وجهها، رغم علمها بمرضها.

أصيبت سمر بسرطان الثدي قبل بدء الثورة السورية بخمس سنوات، تلقت العلاج واجرت استئصالاً للثدي، وخضعت للمراقبة على مر السنوات الخمس، الى هنا يبدو الأمر مألوفاً بعض الشيء، لكن أن تعود سمر وتصاب بالسرطان في البنكرياس، وفي عنق الرحم أيضا بعد خمسة سنوات من شفاءها التام من سرطان الثدي، هو غير المألوف.

 طبياً، أكدت طبيبة "سمر" المعالجة لها أنها من أندر الحالات الطبية في عالم الأورام، فالسرطان الذي أصيب به في البنكرياس، وعنق الرحم، ليس نكساً عن سرطان الثدي سابقاً، وإنما هي أورام جديدة ظهرت في جسدها.

"أخبار الان" التقت "سمر"، واستفسرت عما تعانيه، فقالت: "في البداية كان الشحوب البادي على وجهي يقلقني، وكنت أفسره نتيجة الأعمال اليومية، والتي باتت أكثر مشقّة في ظروف الحصار، من نقل للمياه، وتقطيع الحطب اللازم للتدفئة، والطهي، ومع ازدياد التعب الجسدي، والتراجع الكبير في صحتي، وصل بي الحدّ أنني لم أعد أقوى على المشي، حتى طلبت مني عائلتي مراجعة الطبيبة المختصة، وإجراء الفحوص".

وتضيف "سمر": "في بادئ الأمر حاول أبنائي إخفاء حقيقة مرضي، وهو سرطان البنكرياس، وسرطان عنق الرحم، ولكن مع الوقت، اكتشف حقيقة ما أعانيه، كون لدي خلفية عن العلاج بالجرعات الكيميائية، وكنت قبلها بعشر سنوات اعاني من سرطان الثدي، وما تسببه هذه الجرعات من أعراض جانبية".

تؤكد "سمر" أنها غير قلقة من المرض، ولا حتى الموت، بقدر ما يحزنها وضع مدينتها (دوما)، والحال التي وصلت إليه من دمار، وحصار، وهو الأمر الوحيد الذي شكل عليها صعوبة في التأقلم مع الحال، ومع ذلك، لا تتقاعس عن وصف الثورة بـ "ثورة الكرامة".

يقول "أحمد" ابن السيدة سمر لـ"أخبار الآن": "حاولت جاهداً أن أسعد والدتي، وخاصة بعد علمي بمرضها، وهو مرض لا يرجى شفاؤه، وكل أم تنتظر ذلك اليوم الذي يتزوج فيه أبناؤها، لذلك سعيت أن أدخل قليلاً من الفرح إلى قلبها فتزوجت علّ ذلك يكون سبباً في تحسّن حالتها الصحية".

ويضيف "أحمد": "والدتي دائماً تؤكد أنها غير آبهة بالموت، والمرض، فحياتها لا قيمة لها مع هذا العدد الهائل من الشهداء، كما تقول على الدوام، وإنما أكثر ما يحزنها هو فراقها لأبنائها في هذا العمر المبكر، ودائما تسعى إلى إخفاء ألمها عنّا، وتحاول اظهار نفسها بحالة جيدة"، مشيراً إلى أنه "حاول إقناعها بالخروج من الغوطة، فربما ظروف العلاج أفضل في الخارج، إلا أنها ترفض، وتفضل الموت في مدينتها بين ابناءها عن العلاج بعيدة عنهم".

"أخبار الآن" التقت الدكتورة "وسام محمد" الطبيبة المعالجة لـ "سمر"، وعنها تقول: "تلقت المريضة منذ عشر سنوات العلاج الكيميائي، والشعاعي، والهرموني، إثر إصابتها بسرطان الثدي"، وتضيف: "راجعتني سمر منذ ثلاثة أشهر بسوء حالة عامة، وألم ظهري، ونزف تناسلي، إضافة لحبن، وبعد تنظير البطن أخذ خزعة للتشريح، وكانت النتيجة (أدينوكارسينوما) منتشرة في الجسم، ثم أجري لها صورة طبقي محوري، لنكتشف وجود كتلة برأس البنكرياس تقيس 2.5 سم، وكتلة بعنق الرحم تقيس 5 سم، ولم نتمكن من إجراء عمل جراحي لكتلة عنق الرحم بسبب النزف الشديد".

وعن علاجها، تقول الطبيبة: "بدأنا بالجرعات الكيميائية، واخترنا الخط العلاجي (سيسبلاتين + فلور)، وهو الخط العلاجي الأول بسرطان عنق الرحم، والخط الثاني بعلاج البنكرياس، وبعد الجرعة الثانية أبدت المريضة تحسناً كبيراً، حيث توقف النزف لديها، وتراجع حجم الكتلة في عنق الرحم إلى 2.5 سم، وبعد الجرعة الثالثة اختفت كتلة عنق الرحم بشكل تام، وتوقف النزف بشكل كلي، وارتفع خضاب الدم ليتراوح بين (8-9)، لتتوقف عن نقل وحدات الدم بعد أن كانت تنقله بشكل شبه يومي مع العلم أن العلاج الكيميائي سبباً في انخفاض الخضاب".

 وتضيف الطبيبة: "بالنسبة لكتلة البنكرياس، ازدادت لتصبح 3.5 سم لتزيد 1 سم عن التقييم السابق، مما استدعى نقل المريضة للخط العلاجي الأول في سرطان البنكرياس وهو (جيمزار + كاربوبلاتين)، إضافة أن "الكاربوبلاتين" يعزز شفاء عنق الرحم والتقييم القادم بعد ثلاث جرعات".

وبحسب الطبيبة، فإن الشفاء في سرطان البنكرياس غير ممكن، حتى مع الكشف المبكر له، لأن إنذاره سيء، والعمل الجراحي الذي يتطلبه خطير جداً، وخاصة أن حالة المريضة لا تسمح بإجراء العمل الجراحي، وهذا ما أكدته الاستشارة الجراحية، وعادة يكون مأمول الحياة في سرطان البنكرياس هو ستة أشهر فقط، لكن المريضة بعد ثلاثة أشهر من العلاج تحسن وضعها النفسي بشكل كبير، وخاصة بعد ملاحظتها التحسن السريري الواضح لديها، مما انعكس إيجاباً على الحالة الصحية العامة لها.

وتؤكد الطبيبة "وسام محمد" لـ"أخبار الآن" أن "حالة المريضة سمر من أندر الحالات المرضية، ولكن لا ننسى أنها تلقت العلاج الكيميائي والشعاعي منذ عشر سنوات عند إصابتها بسرطان الثدي، حيث يعد العلاج الكيميائي والشعاعي، سبباً رئيسياً في ظهور أورام جديدة في جسم المريض، وهنا تكمن خطورته."

وعن مصارحة المريض بحقيقة مرضه، تقول: "كل مريض يفرض على طبيبه كيفية التعامل معه، فمصارحة المريض بمرضه تعود إلى الوضع النفسي للمريض ومدى تقبله، ففي بعض الحالات من غير حكمة مصارحة المريض، فمن الممكن أن يؤدي ذلك الى انهيار المريض نفسياً وجسدياً، أما في حالة سمر صحيح أنها تعلم بحقيقة مرضها، ولكنها لا تعلم أن إنذار البنكرياس سيء، وأن مأمول الحياة هو ستة أشهر فقط".

الجدير بالذكر أن المركز (مركز دار الرحمة للأورام) الذي يعالج "سمر" يقدم خدماته لأكثر من 100 مصاب بأورام سرطانية، وهو المركز الوحيد في الغوطة الشرقية من نوعه، ويستقي مورده من فاعلي الخير فقط، ويعاني من نقص حاد في الأدوية، وتأمينها لقلة الدعم مؤخراً، لتبقى حياة العشرات معلقة بين قصف نظام الأسد وحصار قواته للغوطة من جهة، وبين الموت بالسرطان من جهة أخرى.

وربما يكون أصعب ما يمر به المرء هو انتظار الموت، لكن من يرى "سمر"، لا تخفى عنه ملامح الرضا، والتفاؤل الواضحة في وجهها، ولعل الموت الذي يلفها من كل جانب لم يكن وحده سبباً في تعاستها وربما موتها مستقبلاً، بقدر ما يؤلمها الحصار الذي فرضه الأسد عليها، وعائلتها، ومع كل هذا وذاك ترفض الاستسلام، كعادة نساء الغوطة، تدهش بمتانتهن، وصلابتهن حتى الموت، ويصنعن منه الحياة.