أخبار الآن | إزمير – تركيا – (سيف الدين محمد)

تقع مدينة ازمير التركية (564 كم عن اسطنبول العاصمة) على بحر إيجة، وهو ما جعلها الممر الأكثر أمانا للمهاجرين بسبب قربها من الجزر اليونانية وانخفاض تكلفة السفر نسبيا مقارنة بالسفن التي كانت تبحر من مدينة مرسين باتجاه ايطاليا. وقد باتت منذ أكثر من سنة مضت الممر الأكثر شهرة للهاربين نحو جنة أوروبا هربا من أنظمتهم الحاكمة التي قست عليهم.

يوم الاثنين 17 آب وصلنا إلى ازمير، وكانت قد سبقتنا أخبار مفادها نية السلطات التركية منع السوريين من دخول المدينة ومنعهم من تعريض أنفسهم للخطر وعدم جعل ازمير نقطة انتقال غير شرعية الى الجزر اليونانية.

وتحسبا لخطوة مفاجئة في منع الدخول فقد دخلنا بصحبة صديقة تركية كانت مسافرة إلى مدينتها، وهي بدورها كانت تعيش في سورية لفترة قصيرة قبل الثورة. وكان الهدف هو الوصول إلى شاب يعمل في التهريب سوف يقدمني كمهاجر بطريقة اليخت السياحي أو "البلَم" المطاطي في العبور إلى إحدى الجزر اليونانية.

مجتمع المهربين ..

"أبو خليل" شاب في بداية الثلاثينيات وجد نفسه أمام خيار العمل في التهريب، كما يقول. فبعد هروبه إلى تركيا بعد عمله في الثورة في الجانب الإغاثي والإعلامي لإحدى الكتائب في جنوب دمشق (رفض التصريح باسمها)، عانى الكثير، من مخيمات اللجوء على الحدود السورية التركية ثم نام في الشوارع والحدائق بعد انتقاله إلى مدينة غازي عينتاب ثم إلى مرسين ليجد الحظ العاثر أمامه. يقول: "عرض عليّ أحد المهربين أن أعمل معه بتجميع المهاجرين لقاء مبلغ مالي".

أخذ هذا الشاب مهمة "الشقّيع"، وهو اسم متعارف عليه في مجتمع المهربين يُطلق على المساعدين الصغار التي تنحصر مهمتهم بإغراء المهاجرين بالسعر المنخفض وبأمان الرحلة ومميزات أخرى.

يقول أبو خليل: "جميع "الشقّيعة" يعملون تحت إمرة رجال محددين ينتمون بدورهم إلى الرأس الأكبر الذي يطلقون عليه اسم "الجدّ" هو غالبا ما يكون تركياً ونادرا ما نرى جدا سوريًا إلا في بعض الحالات".

يذكر أبو خليل أنه كان يوجد في مرسين "جد" سوري من مدينة اللاذقية يجمّع الشباب المهربين حوله.

يعمل المهربون الصغار تحت حماية المهرب الأكبر "الجد"، فهذا المجتمع هو عبارة عن مافيا حقيقية، فلكل جماعة أعضاء منتمين لها ويضعون فروض الولاء للزعيم.

"تعرضت للضرب من قبل بعض المهربين الأفارقة، وعندما شكوت إلى الزعيم ذلك، أخذني الحرس الخاص به في اليوم التالي إلى المقهى وعندما عثرنا عليهم قاموا بضربهم وتكسير أضلاعهم"، يقول أبو خليل.

كان الهدف من الزيارة هو معرفة أكثر من نموذج للمهرب السوري في المدينة، والاطلاع على الظروف التي دفعته للعمل والمتاجرة بالبشر ومنهم أبناء وطنه الذين يشابهونه في ظروف القمع والاستبعاد التي عانوا منها من عنف نظام الأسد.

"أبو الوليد" مهرب شاب من مدينة درعا، تتشابه ظروفه مع الآخرين من اللاجئين هنا. يقول: "تركت دراستي الجامعية وأنا في السنة الثانية. في تركيا كان علي الاختيار بين النوم في الحدائق أو البحث عن خلاصي. لم يساعدني أحد، أوشكت على الموت بسبب مرض جلدي ثم فيروس في الجهاز التنفسي".

المهرب السوري وضحايا التهريب ..

يتواجد هنا في ازمير الكثير من المهربين السوريين، لكن نسبة ربحهم تبقى قليلة مقارنة بالمهربين الأتراك أو العرب من مغاربة وسودانيين وجنسيات أخرى.

في هذه النقطة، يرى المهرب نفسه على أنه ضحية هو الآخر. لقد أفرز اللجوء حالة من المصلحة الفردية لدى الجميع بحيث باتت مساعدة الآخرين ضربا من الخيال.

يتدخل أحد المهربين الشباب "من مدينة حلب" بالقول: "كان يستطيع أصحاب الأموال فتح مشاريع للسوريين بدل أن يعملوا بمكاتب التحويل واستثمار العقارات ورفع أسعار الأجرة. يكدسون الأموال دون النظر إلى الفقراء من أبناء وطنهم".

لكن هل هذا يمكن أن يبرر التضحية بالبشر، فالمهاجر معرض للموت غرقا في أية لحظة، لاسيما وأن هناك قوارب مطاطية تغرق كل يوم تقريبا.

هل تشعرون بالندم أو المسؤولية؟!

يعرف المهرب أن نسبة الخطورة عالية في طريق التهريب البحري، لكن المهرب السوري يرى أنه غير مسؤول أخلاقيا عما يجري، فمهمته تنحصر بتجميع المهاجرين، أو كما يطلقون عليهم هنا "النفرات" كإشارة إلى عدد مجهول من البشر. أما المسؤول عن القوارب فهو الرأس الأكبر.

"عماد" شاب من مدينة حمص يوضّح أن الشباب المهربين هنا يرشدون المهاجر السوري إلى الطرق الأكثر أمانا ويحاولون أن لا يتعرض لعمليات النصب من الآخرين: "نحن نحصل على نسبة صغيرة جدا من المهرب الأكبر. من يقوم بعملية النصب والاحتيال لا نتعامل منه".

هناك إذًا أيضا قوانين خاصة بأخلاقيات مهنة التهريب، على ما يرى هؤلاء الشباب. فهم يعملون كوسيط فقط كالمرشد السياحي على سبيل المثال. وهم ضحايا الحرب والعنف في سورية كما غيرهم من المهاجرين.

خمسة من الشباب المهربين يجمعون على فكرة واحدة: "نحن أيضا ضحايا. ونحلم بالعودة إلى سورية بعد سقوط النظام أو الهجرة إلى أوروبا. ما نحصله من العمل هذا يكفي لمعيشتنا فقط وليس لتجميع الثروة".

سوق البشر ..

يعرف سكان المدينة عموما بوجود عدة مقاهي مختصة بالراغبين بالهجرة، وللحقيقة فهي باتت مصدر ربح ورزق كبير لأصحابها، ناهيك عن المطاعم والفنادق الرخيصة، فالمهاجرون هم عابرو سبيل لا يمكثون إلا بضعة أيام قبل الرحيل. أما من بقي منهم ولم يغادر لأسباب مالية أو حظ عاثر، فإنهم يفترشون الشوارع والحدائق العامة تخفيفا للمصاريف من أجل الرحلة البحرية. لذلك فمن السهل إرشادك إلى مقهى الغرباء الذي يجمع جنسيات متعددة من الأفارقة والعرب.

لماذا تنامون في الشوارع، أوجّه سؤالي بشكل طبيعي على اعتبار أنني سأهاجر أيضا: "عليك أن توفر أجرة الفندق، لا يزال هناك مصاريف في الطريق البري من اليونان إلى الدولة التي تريد".

أين ستسافر؟ إلى ألمانيا أقول. ينصحني البعض بالدانمارك أو هولندا ولكن ليس النمسا أو السويد. فالمهاجر السوري بات يعرف بقوانين اللجوء الخاصة بكل بلد أوروبي، وما هي المميزات والسلبيات.

في المقهى، تكاد لا تجد كرسيا لتجلس عليه، فيصبح من المقبول أن تجلس إلى طاولة صغيرة فيها الكثير من الزبائن. لا حديث سوى عن الهجرة وعن التشديد الأمني من قبل الشرطة التركية. عند وصولنا قدمت مجموعة من الشباب السوريين والفلسطينيين السوريين كانوا قد احتجزوا في المخفر. كان السبب كما علمنا فيما بعد هو الإمساك بالمجموعة وهي في طريقها نحو "البلم" المطاطي على نقطة انطلاق في البحر ليلا. ربما كان أحد المهربين المنافسين قد وشى للشرطة بهم، على حد قول البعض.

في طريق العودة إلى الفندق الرخيص أيضا، تجد مجموعات من الشباب الصغار أو بعض العائلات تحتل ركنا من شارع خلفي أو حديقة لتمضي ليلها فيه.

وفي الفندق تشعر وكأنك في سورية، الأفراد يتحركون على وقع الوعود بإشعار السفر في أية لحظة. 

السيدة "نوال" وابنتها قدمتا من مدينة اللاذقية، وتعزمان السفر إلى فرنسا عن طريق اليونان. تحاول إقناعي بالهجرة معهم. وكذلك الأمر مع كل من اختار بلدا للجوء وكأنه يروّج لمميزات وقوانين هذه البلدان.

في صباح اليوم التالي يكون نصف النزلاء قد غادر باتجاه البحر صوب رحلة خطيرة جديدة. لا أجد السيدة نوال وابنتها، لقد غادرتا في الفجر في بداية حكاية الخلاص.

قالت قبل ذهابها للنوم البارحة: "نرمي أنفسنا إلى الموت على أمل الحصول على الحياة".

مهربون ومهاجرون ولاجئون، هذا في الحقيقة كل ما أنتجه نظام الأسد الدامي في قمعه لثورة الشعب السوري وحلمه بالحرية والكرامة. وربما لا يحق لنا اليوم نصب محاكمات للنفوس التي تجاوزت حدود الأخلاق، فالسبب والعلة الكبرى تكمن في الكمية المتزايدة من العنف والدم والقتل اليومي كما مارستها عصابة نظام الأسد، وأجبرت المواطن السوري على سلك درب الآلام اليومي .. إنها الملحمة السورية بكل أحلامها ودمويتها.