أخبار الآن | درعا – سوريا ( سارة الحوراني)

أثرت أعمال العنف التي يمارسها النظام ضد شعبه على تصورات الأطفال لحياتهم اليومية ولنمط ألعابهم وتسليتهم. فبعد أن كانت طموحات الأطفال هي الخروج للعب مع الأقران أو الحصول على كرة أو لعبة مناسبة، أصبح الأطفال اليوم يجسدون ما يجول بداخلهم ويعبرون عنه بألعاب أقل ما توصف بأنها حزينة وقاسية.

صناعة القبور وألعاب عنيفة

انسحب أمجد من مجموعته وانعزل عن رفاقه جالسا تحت شجرة زيتون يلعب بالتراب والحجارة، لحظات قليلة حتى تعالت أصوات الدهشة من قبل رفاقه "إنها قبور صغيرة" قام أمجد بصناعتها، لأول وهلة ظننا أنها قبور حقيقية تحوي جثامين بشرية لكنها صغيرة جدا.

باتت "صناعة القبور" هواية الطفل "أمجد" اليومية منذ ما يقارب 4 سنوات على الرغم من صغر سنه. تقول والدته لأخبار الآن: "فقد أمجد شقيقان خلال ثلاث سنوات جراء إصابتهم برصاص قوات الأسد في درعا البلد مهد الثورة السورية، بالإضافة إلى مشاهدته للعديد من أقاربه وجيرانه وحتى رفاقه يقتلون ويدفنون يومياً".

وتضيف والدته: "تغير سلوك أمجد البالغ من العمر 12 عاماً حيث تطغي العدوانية والقسوة على ألعابه، والتي تحولت إلى قتال بالأسلحة التي يصنعها من الخشب والبلاستيك مع رفاقه، وكثيراً ما تعرض للإصابات متفاوتة أثناء لعبه أو مشاجراته مع أقرانه وجيرانه، وحتى تحصيله التعليمي تدنى إلى مستويات منخفضة لدرجة عدم قدرته على القراءة أو الكتابة".

أمجد يرفض الالتحاق بالمدارس أو المراكز التعليمية في منطقته بل يعتبرها تضيعا للوقت، وأن قتال قوات الأسد أهم من التعليم وحتى الطعام. يقول: "أريد قتل من قتل شقيقي وأقاربي إنهم لا يخافون إلا من البندقية وسأحصل على واحدة قريباً وأقتل المجرمين القتلة".

يتركنا أمجد ويذهب مسرعا إلى معركته الوهمية وصناعة القبور الصغيرة بعد انتهاء المعركة ومشاركة رفاقه تشيع الشهداء!.

النوم جالسين والخوف من موت الأهل

"سعيد" طفل لم يتجاوز السابعة من عمره، فقد والده منذ ما يقارب الـثلاث سنوات جراء إصابته برصاصة قناص تابع لقوات الأسد، وشاهد لحظات وداع والده الأخيرة الذي أدخل إلى منزلهم مغطى بشكل كامل وتم الكشف عن وجه والده بحضور سعيد وأخوته، وأمام لحظة الوداع وصراخ الأهل سكن الخوف وهاجس الموت سلوك الطفل.

تقول والدته: "بقي لمدة أربعة أشهر يرفض النوم سواء هو شخصياً أو حتى باقي أفراد العائلة، وتوجب علينا النوم جالسين وبدون أي غطاء، وفي حال شاهد أحد أخوته مستلقياً ومغطى يتوجه إليه مسرعاً مجبرا إياه على الجلوس وساحباً الغطاء عنه. بقينا على حالة النوم جالسين حتى ينام سعيد والاستيقاظ قبله حتى أيقن بأننا لن نرحل كوالده الشهيد".

وتضيف أم سعيد: "تحول سلوك سعيد اليومي إلى عنف تجاه أخوته وأهله جيرانه، والخوف من موت أهله في كل لحظة، فمجرد سماعه لبكاء شخص ما أو إصابة أحدنا بجرح مهما كان بسيطاً ورؤيته للدماء، يبادر إلى السؤال هل سيموت الشخص المصاب؟، أو هل سنموت؟ عند سماعه لأصوات القصف اليومية، لقد تحولت حياته إلى موت وعنف وفراق".

الهروب إلى المزارع صباحا والانطواء على الذات

مع بزوغ الفجر يتوجه "أحمد" 13 عاماً، إلى المزارع المجاورة لمدينة درعا ولا يعود إلى منزله إلا لحظة غروب الشمس وفقاً لـ "أبو عمر" صاحب المزرعة التي يلتجأ إليها أحمد منذ ما يقارب السبعة أشهر.

يقول "أبو عمر" لأخبار الآن: "منذ ما يقارب السبعة أشهر وأحمد يتردد إلى المزرعة منذ الصباح وحتى المساء جالساً منعزلاً تحت الأشجار، قليل الكلام واللعب، كل ما يفعله الجلوس ومراقبة السماء بنظرات مرعوبة وكأن شيئا ما يطارده، ومع مرور الوقت تمكنت من التقرب إليه بعد إحساسه بالأمان من قبلنا، حيث أخبرني بأن منزلهم قد قصف بصاروخ فراغي من قبل مقاتلات قوات الأسد، وفقد جراء ذلك أسرته المكونة من والديه وأخوته، فيما بقي هو وحيداً على قيد الحياة ويعيش حالياً عند عمه".

غياب المنظمات والهيئات المعنية بالدعم النفسي لضحايا الحرب

في ظل غياب الهيئات والمنظمات المعنية بتوفير خدمات الدعم النفسي للأطفال الذين تعرضوا لصدمات نفسية شديدة في الأحياء الخاضعة لسيطرة قوات المعارضة بمدينة درعا، يبقى الأهالي عاجزين عن التصرف حيال ذلك.

حول هذا الموضوع قالت "د. خولة الحديد" التي قدمت العديد من برامج الدعم النفسي للأطفال المتضررين من الحرب من خلال مؤسسة تديرها "رواد المستقبل": "لاشك أن الحرب الطاحنة وما مر خلالها من أحداث صادمة أثرت نفسياً بشكل كبير على مختلف شرائح السوريين وتسببت تلك الأحداث الصادمة بالعديد من المشكلات والاضطرابات النفسية، حيث كان الأطفال الفئة الأكثر تضرراً، وخاصة أولئك الذين فقدوا والديهم أو أحدهما أو أحد أفراد الأسرة".

وتضيف "الحديد" لأخبار الآن: "لا يوجد حدث صادم أكثر من فقدان الطفل عائلته وسط ظروف بالغة الصعوبة، وخاصة إذا شهد طريقة موتهم المأساوية، وبهذه الحالة يحتاج الطفل إلى مزيد من الرعاية والاهتمام التي تبدأ بتلبية جميع حاجاته التي كانت تلبيها الأسرة ولا تنتهي بإبعاده عن مكان الحدث الصادم فقط، بل تتضمن سلسلة من الإجراءات النفسية التي تهدف إلى مساعدته لاستعادة توازنه وإلى حد معين من قدرته على مواصلة حياته".

وتبين الدكتورة خولة بأن: "الأطفال لا يعون  وخاصة الصغار منهم معنى الموت وغالباً ما يكوّنون عنه أفكاراً وأحاسيس غريبة وبعيدة عن الواقع، فيعتقد الأطفال في عمر ما قبل المدرسة بأن الميت يمكن أن يعود، بمعنى هم يعتقدون بغياب مؤقت للشخص أو يتوقعون عودته بعد فترة من الزمن" لافتتة إلى أنه: "غالباً ما تكون لدى الأطفال مشاعر من الذنب تختلف شدتها من حالة لأخرى، واعتقاد مبهم بأنهم السبب وراء الوفاة وخاصة إذا كانت مرتبطة بالأم أو الأب بالتحديد، وهذا الشعور يتسبب بآلام نفسية كبيرة لا بدّ من العمل على علاجها من خلال رعاية مميزة من القائمين على الطفل واللجوء إلى المعالج النفسي أو الطبيب لطلب المساعدة".

وتوضح بأن التعامل مع هذه الحالات يحتاج إلى الكثير من الوعي والمعرفة بحاجات الطفل ومشاعره وآلامه النفسية والإمكانيات المتوفرة لأساسيات الرعاية النفسية، وهذه إحدى أهم الصعوبات التي يعاني منها السوريون بهذا المجال،

ففي الأحوال الطبيعية من المهم الإحالة للطبيب أو الأخصائي أو حتى استشارة شخص قريب ذو ثقة في حال تعذر ذلك لأسباب عديدة، وخاصة في حال وجود خطر أو أفكار قد تؤدي إلى الإتيان بعمل عنيف ضد النفس، وللأسف هذا غير متوافر اليوم مما يزيد من تفاقم مشكلات الأطفال وكأنهم تركوا لمصيرهم وهذه مأساة إنسانية مستمرة منذ سنوات.