أخبار الآن | الرقة – سوريا – (أحمد ابراهيم)

"أكبر كذبة في العالم داعش"، هذا الوصف المختزل من الممرضة الرقاوية عن داعش هو ما كنت أفكر به طوال طريقي من غازي عنتاب إلى مدينة شانلي أورفه جنوب تركيا.

كان عليّ المكوث ليومين على الأقل وأنا أتفق مع "شمّه" لتسجيل شهادتها عن تجربتها المتداخلة الأحداث كزوجة لأحد عناصر داعش من المهاجرين في مدينة الرقة.

بؤس اللاجئين الرقاويين في أورفه

تشق السيارة طريقها بصعوبة في الطريق الزراعي الضيق جدا، والذي امتلأت حفره بماء المطر محمّلة دواليبها بوحله. قال السائق مقاطعا تأملاتي وتذكري "وصلنا".

ثلاث خيم يغطيها بلاستيك أزرق تحت شحوب سماء تشرين الثاني، يحيط بها وعلى مد النظر حقول القطن والذرة الصفراء في سهل حرّان، جنوبي ولاية شانلي أورفه التركية بـ 30 كم.

جمهرة من الصبية والفتيات الصغيرات يلتفون حول امرأة عجوز تجلس على كرسي على باب الخيمة الأولى، تسند يدها إلى ذقنها التي تقبض بها على عصا تساعدها على المشي على ما يبدو. حفر الدهر على وجهها أخاديد عميقة توحي بقصص الساحرات، وتغطي عيناها نظارة سميكة.

بادرتني بلهجتها الرقاوية عندما رأت دفتري: "أنتم جماعة المعينة يابا* .. والله ما جعد نشوف منهم شي". لا خالتي أنا أتيت عندي موعد "أبو شمّه" أجبتها.

لوت شفتيها الغائرتين داخل فمها "لعدم وجود الأسنان" غير راضية، وأشارت بظهر يدها إلى آخر خيمة: "أبو دحام صار أبو شمه! .. زمااان"، متمتمة بكلمات أخرى لم أفهم جلّها.

زفّني الأطفال وأنا اكاد أتعثر بهم، الصغار يهرولون بـ"جزمات" بلاستيكية ذات ساق مرتفع على "شورتات" لا تتناسب والطقس البارد. سبقوني جميعا واصطفوا على باب الخيمة تاركين لي مجالا للدخول، أنوفهم محمرّة يمسحونها بأكمامهم ويجولون بعيونهم داخل الخيمة وبيني.

ناديت بصوت عال كعادة أهل الرقة "أهل البيت، أهل البيت" جاءني صوت واهن ضعيف من عمق الخيمة "فوت، تفضل ما بي حدا فوت .. فوت".

انحنيت داخلا والوحل يتراكم من آثار الدخول والخروج عند مدخل الخيمة. ربما ستة أمتار بثلاثة أبعادها، تفوح منها رائحة "العصفير"* ورائحة أعقاب السجائر في خيمة محكمة الإغلاق.

من عمقها الأبعد جاءني الصوت الواهن "تعال هين بجنبي". مدّ يده من تحت دثار من أغطية وبطانيات، أخذت يده التي هي عبارة عن عظام يغطيها جلد وعروق نافرة بحيث يمكن أن تتبعها إلى القلب، أجلسني إلى جانبه.

ذاكرة الرقة الحية زمن الثورة

يقول أنه في بداية الستينيات كان يعمل حارسا في معمل "تجفيف الذرة الصفراء" الذي يتبع "للمؤسسة العامة للأعلاف". قُطع راتبه عام 2012 إثر تقرير اتهم فيه أنه شارك باعتصام للأهالي أمام محكمة الرقة للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين لدى فروع الأمن المنتشرة في المدينة.

يقول عن ذلك "كنت أمرّ مصادفة عندما رأيت امرأة من أقاربي، فوقفت أستفسر منها عن الموضوع ويبدو "أن أحدهم عبّاني"*. بعد يومين اعتقلت لمدة 17 يوما لأخرج وقد فُصلت من الوظيفة. لدي أربعة أبناء وثلاث بنات ونسكن في حي شمال السكة، أكبر منطقة عشوائيات في الرقة والمحاذية تماما لمقر الفرقة 17 شمال المدينة".

ابني الأكبر متزوج ويعيش في لبنان منذ عشر سنوات، لحق به بداية الثورة أحد أخويه وإحدى أختيه المتزوجون كذلك، ورفض الآخرون الخروج من الرقة. من بقي عندي في البيت "شمّه" وهي ممرضة و"حسان" يعمل في ورشة صغيرة له "تصليح دواليب". آخر نزوح لنا كان من أربعة أشهر إلى تركيا، وها نحن نعيش هنا "19" شخصا مابين صغير وكبير بما فيهم أبنائي المتزوجين وعائلاتهم.

التمهيد لداعش .. كذبة النصرة وأحرار الشام

"شوف أني مو شبيح، بس لازم نسمي كل شي باسمو. السيطرة الفعلية للفصائل على الرقة بعد 4/3/2013 كانت لجبهة النصرة وأحرار الشام فعليا بس والباقي فراطة، وهذول "تنهّد وصمت طويلا" وهو يقصد داعش. دفع لي بعلبة دخان لفّ. "تعرف تلف؟" هززت رأسي بأن: لا، ساعدته لكي ينهض قليلا: "الملعون تمكّن من كل مكان في جسمي، والملعون هذا زاد ما أقدر أتركه". الملعون الأول مرض السرطان الذي ينهي يوما بعد يوم حياة أبو شمّه، والملعون الثاني هو الدخان.

"منزلي جانب معمل تجفيف الذرة الصفراء وهو أكبر معمل في سوريا. جاء أحرار الشام وهجّرونا من بيوتنا بحجة أنهم سيضربون الفرقة وهم خايفين علينا، هجّروا أغلب العالم من  بيوتها، ولكني رفضت "أريد أن أموت هنا". عند المساء تم البدء بنهب 35000 طن ذرة مجففة ولم يحاربوا الفرقة".

"أنا لم آتي إليك من أجل أحرار الشام أو النصرة، أو حتى الجيش الحر"، قلت له فهذه الصفحة ستفتح بعد انتصار الثورة.

"أدري .. أدري .. انتم زاد ضحك عليكم بشار .. مو بس عليكم ع الدنيا كلها، خلاها تتلهى بداعش وهو قام يسرح ويمرح بكيفو، جاب ايران وحزب الله والعراقيين، يا رجّال حتى الأفغان والروس، وضحك عليكم "داعش سوت .. داعش عملت .. داعش ذبحت. داعش جبان لو أن العالم داعم الجيش الحر كان سواهم "صندويشات"، منو جابهم؟ جابهم بشار. منو سواهم؟ سواهم بشار. والعالم مطرقعين وراه .. ما شافوا الكيماوي .. ما شافوا السجون واللي يصير فيها .. ما شافوا البراميل … ما شافوا الجوع والحصار، ويقولولك داعش. ابن أخوي والعود والرب المعبود وسليمان ابن داوود داعش هي بشار الأسد وبس يشيلوا بشار الأسد رح تخلص داعش لحالها".

أنهكه الكلام والسعال، ثم يقول: "إذا تشرب شاي قوم وحط الإبريق على الغاز .. أووه نسيت قصدي ع النار، ما رح حدا يجي قبل خمسة المسا، كلهم بالشغل يحوشون قطن، ايش بدنا نسوي، بدنا نعيش".

شكرت كرم ضيافته ولكنه أحرجني: "يابا لا تشوف حالنا هين، الله وكيلك هناك عندنا بيت ونظيف وإحنا والله نظاف من الداخل والخارج، لا تشوف حالنا هيك يلعن أبو الظروف ..".

"لا يا عم والله لا أشتهي الشاي حاليا". فقال مموّنا نفسه "لا تكذب، ما بي مدخن ما يشتهي الشاي أو القهوة". دلني الأولاد على مكان إشعال النار وصنعت الشاي.

الخامسة مساء من الشهر الثاني من فصل "الصفري" 2015 حسب التوقيت المحلي للمخيم. جمهرة نساء وأطفال شباب ورجال هدّهم التعب بعد يوم عمل يمتد من الخامسة صباحا حتى الخامسة مساء في قطاف القطن. "يعتمد النظام الزراعي التركي على المكننة في قطاف القطن ولكن مع توافر العمالة الزراعية السورية الماهرة والخبيرة ورخص أجورها اعتمدت بدل المكننة لنظافة قطاف القطن وعدم خلطه مع الأوراق الجافة والعيدان مما يعطي منتجا من الخيوط وبالتالي النسيج ذو المواصفات العالية".

أُشعلت نيران المخيم وتحلّق حولها كل الموجودين. المهمة الأولى هي العجن والخبز ثم الطبخ ومن ثم تسخين الماء للغسيل والحمام لمن يرغب. يحمل الأطفال العيدان غير مكتملة الاحتراق برأسها جمرة ويرسمون بها أشكالا عبر تحريك أيديهم بسرعة على شكل دوائر: "هذا صاروخ. شوف طيارتي. هذا دوشكا، شوفوا عندي الآر بي جي. أنا داعش بدي أذبحكم" وغيرها وسط صراخ الأمهات عليهم وتأنيبهم لحرق مواقع في ثيابهم، والأولاد مستيقظون في انتظار العرانيس "أكواز الذره" التي دمّسوها بالنار.

يهاتفني السائق التركي فيصمت الجميع ويخبرني بلهجة عرب أورفه: "أصوّبك ياو.. أجيك، خلصت شغلك؟" أجبته بلا وأن يمر ليأخذني على أن أرجع في اليوم التالي.

أصر الجميع بأن أنام عندهم: "والله عندنا بطانيات نظيفة" وهكذا كان.

شرح بعض المصطلحات: 

جماعة المعينة: موظفو منظمات الإغاثة
ما جعد نشوف منهم شي: لم نرى منهم أي مساعدة
"العصفير"*: كلمة رقاوية محلية تطلق على رائحة الدخان المعشش بالمكان.
عبّاني: كلمة سورية تعني اعتقال المواطن بسبب من عيون النظام وكتابة تقرير أمني ضده.
زاد: كلمة محلية رقاوية تعني "أيضا"
العالم مطركعين وراه: العالم يوافقونه ويمشون خلف روايته.
شهر "الصفري": هو شهر الخريف في لهجة أهالي الرقة كدلالة على اصفرار ورق الشجر في الخريف.
أصوّبك: تعني باللهجة التركية لأهالي عرب أورفه الاستفسار عن المكان أو الوجهة.
ياو: كلمة محلية تركية تعني أخي لتفيد بالاحترام في التخاطب وليست لتدلّ على نمط قرابة.