أخبار الآن | دمشق – سوريا (جابر المر)

لم يعد القصف والتهجير والعنف المباشر وحدها الأسباب التي تدفع السوريين في بعض المناطق لتفضيل الموت على الحياة القاسية التي يعيشونها. فارتفاع الأسعار الخيالي وحده كفيل بأن يتعرض السوريون لشتى أنواع العذاب.

مع نزوح الريف والعشوائيات التي تشكل حزام فقر حولها، اكتظت دمشق بما لا تستطيع مدينة أخرى تكديسه من بشر في أبنيتها. ولأن الوافدين الدائمين إليها، أكثر ما يستطيعون حملة في حال سمح لهم النظام بذلك، بضعة ثياب لا تقيهم برد الشتاء ولا تجعلهم محميين بحال من الأحوال، مع كل الخسارات التي يتركها النازح إلى دمشق خلفه؛ يبدو البحث عن أكثر من عمل وكأنه مورد الرزق بالكاد يقي مرارة العيش.

مورد غير كاف

وطالما يتقاضى الموظف والعامل السوري راتبه بالليرة السورية فإن وظيفته بما يقاسيه معها من وضع أمني خانق داخل الوظيفة وفي الطريق إليها، لا يسد رمقه وأسرته ولا يدفع عنه حتى إيجار المنزل الذي يستأجره بالكاد.

يقول "صبري" أحد الموظفين بوزارة الصحة: "أنا موظف في وزارة الصحة، وأعمل في مطعم بعد انتهائي من الوظيفة، وراتبي في المهنتين لا يصل حدود المائة دولار أمريكي، لا وسيلة لكي يحصل أولادي على الدفء سوى الأغطية وهذا سيسبب لهم أمراضا إن لم تظهر أعراضها الآن فالمستقبل كفيل بأن يفاقمها، ولا يوجد من يرسل لي النقود من الخارج".

ولا يقتصر الأمر على أصحاب الوظائف في دوائر الحكومة، فأصحاب الأعمال الحرة والحرف والمهن المختلفة باتوا على وشك التسوّل في ظل غياب المشاريع الحيوية التي تتطلب الأيدي العاملة من كافة المهارات.

"عبدالله" النازح من حي جوبر شرقي دمشق، يعمل حلاقا لدى صاحب عمل نصف اليوم وفي الصباح يحاول التقاط رزقه كـ "عتّال" في سوق الهال: "لم أعد أشعر بأن الحياة تستحق كل هذه المعاناة، لدي طفل صغير وأشعر بأنني كبرت عشرات السنين فأنا بالكاد أنام وفكري مشغول بتأمين الإيجار الشهري والحليب والطعام اليومي، أما الأمور الأخرى من ثياب وكماليات فقد نسيناها منذ وقت".

لاجئ ومعيل

هنا يختلف مفهوم المعيل في دمشق عن سابق ما للكلمة من معنى، فقد بات المعيل اليوم هو أحد الأبناء الذين خرجوا بالبحر أو هربوا إلى الدول المجاورة بحثا عن لقمة العيش. في هذه الحالة فإن الابن الذي يتمكن من إرسال ما مقداره 300 دولار أمريكي لأهله في دمشق، سيقيهم المذلّة على الأقل، فيما يعتبر هذا الرقم بالنسبة لمن يتقاضى أجره بالليرة السورية رقما قياسيا،

وإن كان الصيف يستر بعض العائلات التي لا تحتاج لأكثر من مأوى أي كان وضعه وطعام وشراب، إلا أن الشتاء يغير كل الموازين ويصبح مقدار صرف العائلات ضعف ما هو عليه بالصيف، يخبرنا "أبو عامر" 45 عاما، والنازح من مخيم اليرموك إلى بلدة صحنايا: "أنا أحصل على 300 دولار من ابني المقيم في تركيا ويعمل هناك، نضطر لدفع ما قيمته 100 دولار لتدفئة نحصل عليها بالكاد، و100 دولار للسكن، ونحيا أسرة بكاملها بـ 100 دولار فقط، ولك أن تتخيل شكل الحياة الذي نعيشها بـ 100 دولار فقط، بينما لا أحد يرحم في هذا الغلاء الفاحش الذي تعيشه الناس، لا زلنا نعتبر أن الـ 300 دولار التي يرسلها ولدي لي، تحمينا وتجعل وضعنا أفضل بكثير من كل الذين نعرفهم بلا معيل يرسل لهم النقود من الخارج".

"أم زهير" تعيش في منطقة التضامن جنوب دمشق، تنتظر كل شهر حتى ترسل ابنتها بضعة دولارات تقيها مذلة السؤال: "يصلني من ابنتي اللاجئة في فرنسا مبلغ بين 100 و 250 دولارا شهريا، بالنسبة لي هذا المبلغ يضمن لي كرامة العيش هنا بحيث أصرف على أسرتي ريثما أستطيع ربما الخروج من جحيم الحرب".

تزداد الأمور سوءا يوما إثر يوم، ولا يزال نظام الأسد يرى في نفسه أفضل حاكم لبلاد شرد نصف سكانها، والنصف الذي استطاع أن يبقى وصيا عنيفا عليه أعياه الفقر والجوع والبرد.