أخبار الآن | ريف دمشق – سوريا (ورد مارديني)

نزهة مع الأهل على الدبابة، شاب يحمل بندقية، طفل ينزف دما وقبور شهداء مغطاة بالأزهار، هذه بعض من رسومات الأطفال التي أبدعوا بها في حصة الرسم. تخبرنا المعلمة "حنان" وهي المعلمة المسؤولة عن الأنشطة والرسم في إحدى المراكز التعليمية للأطفال في الغوطة الشرقية: "طلبت من التلاميذ أن يرسموا ما يريدون بغية تفريغ ما يعيشونه من ضغط نفسي وخوف دائم وحرمان من أبسط حقوقهم، بسبب الحرب التي يعيشونها يوميا والحصار الذي أكل أجسادهم، تأثرت جدا من رسوماتهم فعلى الرغم من بساطتها إلا أنها تحمل معان كبيرة لا يفهمها إلا كل سوري عاش الحرب بتفاصيلها وأشكالها".

تغدو الغوطة بالنسبة له سجنا كبيرا، هذا ما تلفظ به الطفل "فداء" ذو السبعة أعوام عندما طلبت منه المعلمة حنان أن يصف لها الغوطة بكلمة واحدة، يتحدث فداء عن السبب الذي دفعه لوصفها بالسجن: "لا أعرف عن الغوطة إلا أنها سجنا كبيرا ونحن محاصرون فيه، لا نستطيع الخروج منها لأي مكان، أحيانا أتمنى أن أذهب إلى الحدائق والمنتزهات أو إلى مدينة الألعاب كباقي الأطفال لكن الغوطة لا تحوي مثل هذه الأماكن وحتى لو كانت فلا نستطيع الذهاب إلى أي مكان خوفا من القصف والغارات الجوية".

وفي الوقت الذي يقضي به فداء نهاره في المدرسة بين معلمته وأصدقائه، يبدو أن الظروف القاسية لم تترك لـ "أيهم" 12 عاما أن يفكر بالمدرسة إذ يقول: "استشهد والدي منذ سنة وأنا وحيد على أربع بنات، لم أستطع أن أرى والدتي تذهب من مكان إلى آخر لتأمين حاجياتنا خاصة عندما أصابها الديسك بعد أن أصبحت تعمل بتنظيف البيوت، لذلك قررت ترك مدرستي والعمل عوضا عن أمي رغم حبي للدراسة".

آثار نفسية وبرامج علاجية

ربما زادت الثورة من صلابة أطفالها وجعلت من بعضهم رجالا وأبطالا بكل معنى الكلمة، فالحرب دفعت الأطفال لأن يكبروا بسرعة، ويغادروا براءتهم التي باتت تنشغل بعالم الاعتقال والموت والقصف والدمار، وهو ما يشكل أكثر مخاطر آثار الحرب ويظهر لاحقا في جيل كامل ممن نجوا من الحرب وقد حملوا معهم مشكلات نفسية لا حصر لها.

يصنف الأخصائي النفسي "غسان علي" في الغوطة الشرقية ذلك: "تنقسم الآثار السلبية للحرب على الأطفال بشكل عام، إلى نوعين؛ آنية وبعيدة المدى. فالظروف الصعبة وقسوة الحياة والمناظر الدموية التي يشاهدها الأطفال تؤدي آنيا إلى اختلال في السلوك واضطرابات في النوم وتلعثم في الكلام وفقدان الثقة بالنفس، وقد تتسبب في إصابة الأطفال بالتبول اللاإرادي، وعلى المدى البعيد هناك مشكلات ما بعد الصدمة، منها قلق مزمن وأرق دائم، وأحيانا نوبات من البكاء مع استرجاع الذكريات السيئة. وتأخذ الندوب النفسية التي تصيب الأطفال الذين عاشوا الحروب، أشكالا متعددة ودرجات مختلفة من الشدة، ترتبط بعمر الطفل ودرجة إدراكه".

وأشار إلى أن الصدمة النفسية لدى الطفل قد تظهر بعد سنوات وذلك حسب البيئة الاجتماعية والأحداث التي يمر بها الطفل، منوها إلى أن من لا يظهر عليهم آثار الصدمة بشكل مباشر وواضح يجب أن يتم تقديم الرعاية لهم من خلال عمل جلسات مختلفة للتفريغ النفسي لهم سواء بالرسم أو الكتابة أو اللعب.

ويضيف: "سأفتتح قريبا مركزا للدعم النفسي وأنا الآن أحاول أن أجد كادرا مميزا من المعلمات اللواتي يحضرن حاليا دورات لكيفية التعامل مع الطفل أثناء الحروب، وهدفي من هذا المركز هو إخراج الأطفال من قوقعة الحرب وإدخالهم إلى عالم مليء بالنشاطات الترفيهية والألعاب المسلية، وهناك أفكار كثيرة سيتم العمل عليها منها مسابقات ثقافية ورحلات علمية بالإضافة إلى حصص للتفريغ الانفعالي". 

الحرب التي قتلت الطفولة

أما دور الأهل، فيكمن في  تخفيف آثار الصدمة النفسية وكيفية التعامل مع أطفالهم  فتفوق أهميته دور العلاج الطبي من هذه الآثار فيما بعد، وتعمل فيما تعمل كوقاية. وتكون الوقاية ببث الاطمئنان في نفوسهم وعدم ترويعهم ولعدم تركهم يتعرضون لهذه المشاهد المؤلمة ولا يواجهون أيا من هذه الآثار وحدهم؛ حتى لا يتفاقم أثرها السلبي داخل نفوسهم.

"أبو سارة" أحد الأشخاص الذين اعتقل النظام زوجاتهم ولم يستطع أن يتلفظ بحرف، يصف لنا مشاعر طفلته بعد اعتقال والدتها أمام عينيها قبل عام تقريبا: "كنا قد قررنا الخروج من الغوطة هربا من الحصار، بعنا كل ما نملك لتأمين المبلغ المطلوب كي يسمحوا لنا بالخروج وهو 500 ألف ليرة عني وعن زوجتي وطفلتي، شعرت يومها أننا سنرتاح من قسوة الحصار ومرارته، لكن للأسف كان ذاك اليوم بداية لمأساة جديدة تنتظرنا .. اعتقلت قوات النظام يومها زوجتي، ولم أستطع أن أحميها من بطشهم، حاولوا أن يعتقلوا طفلتي، توسلت لهم كثيرا لكنهم ضربوني ضربا مبرحا وبدأت طفلتي بالصراخ الشديد فرموها إلي بكل قسوة وأخذوا زوجتي مني، طفلتي إلى الآن تستيقظ يوميا وتصرخ دون سبب، حاولت أن أعالجها كثيرا لكن دون جدوى، حتى أنها تخاف بشكل كبير من الغرباء ولا تتقبل أي شخص لدرجة أنها تبكي إن اقترب منها أي شخص لا تعرفه".

أما "أم سمير" فلم يكن وضعها أفضل مع طفلها سمير ذي الخمسة أعوام؛ الذي يعاني كل جيرانه من عدوانيته الشديدة، حتى مع أخوته، بعد أن فقد والده خلال الاشتباكات في الغوطة الشرقية، تخبرنا قائلة: "ربيت ثلاثة أطفال قبله، لكنني لم أعاني في تربيتي لهم كما أعاني في تربيتي لسمير ربما لأنه كبر في جو مليء بالعدوانية، حتى أن ألعابه كلها عبارة عن بندقية صنعها بيده من الخشب ودبابة صغيرة اخترعها بنفسه من عدة أشياء كنت قد رميتها سابقا في سلة المهملات، أحاول أن أزرع فيه بعضا من الهدوء والطيبة مع أقرانه لكنه مصمم على الانتقام لوالده رغم صغر سنه، وكلما خرج من المنزل يتخيل نفسه مع الثوار ويقول لي: "اليوم عندي معركة مع النظام ويمكن أستشهد وروح ع الجنة عند بابا .. ادعيلي".