أخبار الآن | دمشق – سوريا (آية الحسن)

يرصد فيلم العودة إلى حلب للمخرج الفرنسي Marcel Mettelsiefen الحياة اليومية لعائلة سوريّة من حلب، ويتابع تفاصيل دقيقة من حياتها وأكثرها قسوة وحساسية، ليبدأ تحديداً خلال حدوث إحدى الاشتباكات المسلحة في المدينة وبالقرب منهم فيكونوا أكثر المتأثرين بها.

قصة حقيقية لفيلم غير عادي

أبطال الفيلم هم أفراد عائلة "أبو علي" مقاتل في الجيش السوري الحر، يعيش مع أولاده الأربعة وزوجته وبعض الأقارب والأصدقاء، يسكنون في إحدى الأحياء التي يتمركز فيها الجيش الحر. ومن هنا بدأت الحكاية، مدينة مدمرة يحارب من فيها بأقصى طاقتهم لتجنب الأسى والفقدان، مع بعضهم يقاومون ويؤمنون بالثورة السوريّة حتى ولو كانت على حساب حياتهم، وهذه حقيقة ما جرى.

نسمع بعضا مما تقوله كلا من الأم والفتيات الصغار حول مفهوم الحرب وعلاقتها بوالدهم "التي أصبحت بالضرورة متعاكسة"، فبين الأبوة والقيادة يضطر "أبو علي" لاختيار الثانية ليصبح واقع أسرته الصغيرة أكثر تعاسةً من الحرب التي حرمتهم الحرية والحياة وهددت أمنهم، وباتت تنذر بفقدان كبير تقابله تضحية كبيرة لتأتي بعدها الحياة الجديدة.

هذا ما يحاول المخرج طوال الوقت رصده، إلى جانب الدمار الذي تتبعه الكاميرا خلال حركة الشخصيات في المكان الصغير، والذي لا يتعدى أن يكون لقطات داخلية في غرف البيت شبه الفارغ إلاّ من حركة الأولاد، أمّا خارج البيت فهو فقط الشارع الذي يسكنون فيه والذي يقيم فيه أبو علي متراسه أو مقره، كما يسميه.

خارج العالم الصغير، هناك الكثير من اللقطات العامة للمدينة المنكوبة، أسطح فارغة وبيوت مدمرة، صمت يغلّف المكان بتواتر دائم لأصوات العيارات النارية والمدافع. هذا ما تعيشه الشخصيات التي أحالها هذا الشريط الوثائقي إلى أبطال في دراما تشبه واقعها، حيث يحمل من الواقعية السينمائية ما جعله منطقيا ومؤثرا أمام عشرات الأفلام التي رصدت معاناة المدنيين وزجتهم بابتذال وتعاطف لا أخلاقي.

أبطال فيلم "العودة إلى حلب" يناضلون على طريقتهم وبما تبقى لهم من حيز بسيط في المكان والهواء. وضمن الحيز المكاني الصغير يوجد قلب أب مُحب يتحمل بكل تفاني مسؤولية النصر والحماية فتتحول الثورة معه بكل معانيها لنضال حقيقي يشعر أمامه "أبو علي" بضرورة الصمود أمام أولاده وبيته وثورته.

"منعيش مع أبونا ومنموت مع أبونا مننتصر مع أبونا" هكذا تعيش العائلة ذلك النضال. اختاروا أن يكونوا مع بعضهم احترازاً لوقوع الفقدان، هذا ما كانوا يخافون منه وهذا ما حدث، ولأن الحرب لا تعرف مقدمات وإنذارات.

"فقدنا أبو علي" هذا ما قالته الزوجة كدليل واضح على حجم الفقدان والخسارة التي بليت بها العائلة، بعد مشهد يرصد خوف الأم وبناتها من اقتراب صوت طائرة النظام التي جاءت تقصف المكان وتقصف معه عمر الأبوة والمحبة وذلك الحيز المكاني الصغير الذي كان يتسع له دفء العالم. 

كيف تكتب كلمة ألمانيا؟

تقرر الزوجة ترك حلب والسفر إلى ألمانيا، بعد أن مضى على غياب "أبو علي" الكثير وبات أمل عودته مستحيلا، فتكون أمام خيار مسؤول تجاه أولادها الذين ظلمتهم على حساب الثورة كما يقول أبو علي سابقاً وتعود هي لتؤكد على ذلك. فبعد خسارة الثورة لم يبق إلاّ بعض الأشخاص الأصحاء للهرب بهم إلى مكان آمن، لربما حصلت هذه العائلة التي تشبه مئات العائلات السورية التي اضطررت للرحيل على فسحة أمل صغيرة لكل ما هو جديد. ولكن قبل الرحيل لم تنس الفتاة أنها بانتظار دائم، فرسمت خريطة تدل على الطريق إلى ألمانيا وعلقتها على الحائط في البيت الذي لم يعد لهم، لعل والدها يخرج قريباً من سجنه ويعرف الطريق.

سأفتقد حلب

حلب التي لم يعرفوا منها هؤلاء الصغار إلاّ فخرهم بوالدهم الثائر وحزنهم عليه، يتركونها متجهين إلى المعبر الشمالي محاولين الدخول إلى تركيا. "كل ما دست على الأرض دوسة بخرق بوطك" هذه هي الأرض التي تعيش عليها المئات من العائلات السورية النازحة من سوريا إلى المخيمات في تركيا أرض مملوءة بالطين والماء لا تستطيع العيش عليها.

مع وصول العائلة إلى تركيا تتبدد حالة الأسى والهروب وتتحول إلى انتظار وقلق أمام مصير مجهول، ولكن قبل ذلك يضع الصغار على طريقتهم حداً لانتهاء مرحلتهم الأولى والبدء بمرحلة جديدة أطلقوا عليها تسمية "تأمل الحياة والتقاط الأنفاس". يركضون أمام البحر يشدهم إليه ويعيدهم، يملأ وجوهم بالضحكات والصراخ، يحولهم لأبطال كبار أمامهم تتسع السماء.

تقول أكبر الفتيات أن المكان الآمن هو المكان الذي يستطيعون فيه أن يتأملوا حياتهم، أمّا أمهم فالأمر عندها مختلف، عالمها هو الجهاز الحديدي كما تصفه، أيّ "الموبايل" الذي تحول إلى أكثر من وسيلة تواصل، هو ألبوم صور وذكريات لا يمكن التخلي عنها، هو فعلاً عالم زوجة أبو علي التي حملت معها صور زوجها والتي اعتادت أن تشرب معه القهوة وتكلمه كل يوم، تخبره بما حصل معهم تشتاق وتنتظر وتبكي. 

في ألمانيا لم يعد لكلام الأم أهمية على قدر أهمية ما يقوله الأولاد ببعض الإنكليزية وألمانية يحبونها ويتعلمونها، فقد أصبحت ألمانيا تعني الأمل الجديد لهم، بيت جديد ومدرسة جديدة والكثير من الأصدقاء، ربما هذا ما أراده أبو علي لهم، وهو المكان الذي يستحقون. تبقى الأم في استحضار دائم للصور والذكريات، أما الصغار لا وقت لديهم للتذكر فالمكان الجديد أكبر من الانتظار والندم رغم الشوق. حيث أصبح كل شيء مستقرا وآمنا وجاهزا ليعوضوا ما فاتهم.